قصة العبقري المبتكر حسن سعيد الحاج علي

ما بين الرابعة والعاشرة ذاكرة من المحال أن تنسى يومًا ، من المحال أن تموت، ربما لأنها الفترة الزمنية التي ستشكلنا بسلبياتنا وإيجابياتنا مدى الحياة. في ضوضائها المسار الأول و الثابت لما يُمنح لنا وما قد نحرم منه . فيرتبط اسمي  ” حسن سعيد الحاج علي ” بطفل صغير لازال يعز على قلبي عندما حُرم من الطفولة ، عندما اعتبره الكبار أنه سويٌ لهم ، فتبدلت ملامح ظله تحت الشمس ، من ظل يلاعب كرةً أو طائرة ورقية ، إلى ولد يسير خلف والده الذي يوبخه ” امشِ يا وج النحس ! ” ، إلى ولد في العاشرة من عمره يتسآل لماذا يشتمه والده بهذه الطريقة ؟! لماذا أنجبه ؟! ما ذنبه ليُلام ، إن كان بائع  ” السمسمية ” الذي من المفترض أن يشتري منه ثلاثين قطعة بليرة  ليوزعها طول النهار ليربح نصف ليرة ، ليس موجودًا في الساحة. فإذًا حسن سيتحمل إهانة والده البالغ من العمر ستين عامًا، والمعيل الوحيد لستة أولاد،لا يستطيع تأمين قوت يومهم، في زمن صعب جدًا   

في العاشرة من عمري توفي والدي ، فرأيت المصيبة على إخوتي أكثر مما رأيتها على ذاتي ، كان لديّ ثلاثة إخوة أصغر مني ، و اثنان أكبر مني . ولقد فضلت غيري على نفسي ، كنت مستعدًا لأعطيهم ثلاثة أرباع رغيف الخبز ، لأن الربع يكفيني ، خاصة الصغار لأنني كنت أعتبرهم مسؤوليتي . لكن هذا الرغيف لم يكن بمتناولي ، إنما جُبرت على تقاسمه مع رب العمل اللّبان ” مصطفى المحمود ” الذي تكفل بإطعامي صحنًا يشاركني فيه، لكن الليرة كل يوم كانت كفيلة بأن أصمت و أن لا أاكله مع الصحن ، إلا أنَ الأيام لم تكن كفيلة بإبقائي في العمل أكثر من أربعة عشر يومًا. تغييبت فيها ليومين أو ثلاثة  بسبب مراسم جنازة والدي.ليطردني بعدها والد صاحب العمل، متذرعًا أن ابنه يريد عاملًا أكبر سنًا مني. وأعطاني أجرتي حسمًا  الأيام التي تغيَبت فيها ، طالبًا السماح لأنه يريد الذهاب إلى الحج

” قال سامحني يا ابني قال ، إن شاء اللَه بتروح على الحج وما بترجع ” رددت هذه العبارات مستهزئًا به دون بعد في طريقي إلى المنزل على الرصيف مقابل منزل صائب سليم، حيث وجدت ربع ليرة و أعطيتها لمحتاج كان فوق رأسي . وأظن أنَها سبب استجابة دعوتي ، فالكهل لم يعد، قد مات في الحج

انتقلت من عمل إلى آخر ، في المواد الزراعية ، مع ” مخلص بضائع عن البور ” .. إلى أن ثبت في قهوة لمدة عام ونصف تقريبًا . كنت أوصل الطلبيات إلى المكاتب في المبنى . واذكر أنه كان يعمل معنا رجل ثلاثنيّ أثار في سريرتي سؤالًا أعتقد أن شكَل مرحلة مفصلية في حياتي : هل سأقضي حياتي مثله ؟

كانت أمي حازمة بعض الشيء عندما علمت أني أريد تعلم “صنعة ” ، حرمتني من مصروفي الشخصي ، بحجة أن الـ “صنعة ” يوميتها أقل من العمل العادي، ومع ذلك بقيت مصَرًا على قراري ، وبعد أن استأجرنا منزلًا مالكه” عدنان يونس” العامل في مصنع لـ”الثريات ”  بمنطقة وادي اليهود ( وادي أبو جميل ) وهو عينه المصنع الذي بدأت العمل فيه. كان يحتوي على ستة أو سبعة عمال ، كل يعمل في اختصاصه ( دهان ، تلميع ، تبريد .. ) ، أما أنا كنت أعمل تحت أيدي الجميع، مما منحني خبرة في كافة مراحل التصنيع، وجعلني عاملًا ممتازًا طمِع ” عدنان يونس ” به، ليعمل معه و مع العمال المشكلين مصنعًا في بيوتهم  خارج المصنع الأساسي، فما ما كان منه إلا أن اخبر صاحب المصنع أن أمي تريد زودة على يوميتي، من أجل طردي  

تعلمت الـ” صنعة ” عن ظهر قلب، وأمسيت خبيرًا بها، حتى صرت أمهر منه، وأوسع معرفة و إطلاعًا، إلا أنني لم أخبره. لكن كان ينقص هذه الخبرة أن أتعلم كيف يصب قالب الـ ” دليك ” (1) و كيف يمكنني تعلم ” الخراطة “. لكن عزمي وإصراري على الصبر من أجل مستقبلي جعلني أقوم بتكيَل المواد الأولية : زيت ، السكر ، الرمل  التي يستخدمها المعلم يونس لصب الـ ” دليك ” الذي حرص على إخفاء معاييرها عني، وبعد إنتهائه من الصب، قدرّت الكمية الناقصة، لأتمكن من معرفة المقادير المستخدمة، فمثلًا إذا نقص كيس السكر ثلاث ” غرفات “،  و الزيت ” 3 مل ” ، يعني أنه استخدم ثلاث غرفات سكر و 3 مل زيت

أما ” الخراطة ” قد تعلمتها بعدما اصطحبني المعلم يونس إلى ” منزل المخرطجي ” الذي وعدته أن أعمل لديه سرًا وبعد انتهائي من العمل لدى المعلم يونس . وبعد ثلاثين يومًا تعلمت الـ” خراطة ”  لدرجة أنه كان يدوّن لي المهام و يذهب ليسهر . وبعدها  أسس صاحب الـ ” مخرطة ” معملًا للـ ” شويّات ” ، والذي اضطر إلى أن يقسمه بسبب خلاف مع شريكه. فخيّرته إن كان يريد إنشاء معمل لل” ثريات ” في فرعه الجديد أو أن يكمل في ” الشويات ” لأنني قادر على صناعة الإثنين بكل دقة ومهارة  

رأيت ابنة خالي للمرة الأولى بعد غياب طويل عن القرية ، كنت في الخامسة عشر من ربيع عمري لكن عمري العقلي كان خمسينًا، أعجبت بها و أحببتها ، لأنهي عملي في آواخر 1969 و أبدأ مرحلة جديدة برفقة زوجتي عائدة ، لم يكن لديّ الكثير من المال ، لكن كنا نملك الكثير من الحب

في شركة ” الأونيكو “(2)  بدأت العمل  في قسم الصيانة و من بعدها رئيسًا لفرع المكابس الذي يعمل فيه ثلاثون عاملًا ، وكان عمري تسعة عشر عامًا . والعمال بطبيعة الحال كانوا مؤدبين  و غير مؤدبين ، وكان يستهزؤون برجل طاعن في السن يدعى أبو جوزيف ، منعتهم من ذلك  و سلمت الأمور اليسيرة و السهلة  له ، ولم يكن لديانته أي تأثير بطريقة التعامل معه ، فأنا أعتبر الإنسان إنسانًا ، دينه هو حريته الشخصية  

كانت الطنجرة تمر على ستة مكابس ، وبما أن العمال يعملون وفقًا لنظام اليومية ، كان أحدهم يضرب قالب المكنة فيتعطل ، فيعطّل عمل البقية ، و يقفون عن العمل حتى يتم إصلاح المكنة . وبذلك لا يعملون ولكن يسجل لهم يوم عمل ، قررت حينها أن أجد حلًا ، بأن أزيد الإنتاج و أختصر الوقت ، فاقترحت عليهم نظام الـمقطوعية ، أي أن ينالوا أجر يومهم في حال إنهاء 3500 مسكة ، فبدؤوا يعملون بسرعة أكبر ، لتلاحظ الشركة أن الإنتاج زاد 1000 قطعة يوميًا على الرغم من انصراف العمال باكرًا 

إلا أن الظلم الحاصل في المصنع منعني من إكمال مهامي، فأنا لا أرضى بعمل لا يأخذ العمال فيه الحد الأدنى لأجورهم، إذ أن صاحب العمل يعتبرك سيجارة متى انتهى منك يدهسك . فبعد فشل الإضراب الذي قام به العمال ، و إصرار الإدارة على اتخاذ سياسة العمل ذاتها و عدم تحسين وضع العمال ، قدمت استقالتي كي لا أكون شريكًا في الجريمة ، على الرغم من محاولة جميع مدراء الأقسام منعي، وزيادة مرتبي

انتظرني عمل في ” كسرجيانه ” بعد ثلاثة أشهر من تقديم إستقالتي، وبعد تدريب دام لأسبوعين على مكنة حديثة تسلّمت العمل خلال الدوام النهاري . وكالمعتاد يأتي المشرف على القسم ليتفقد جودة الإنتاج ، لكن من غير المعتاد أنه وجد بعض القطع المنتجة لديّ مخالفة للجودة، فرميت أصابع الإتهام على العامل الذي يداوم مساءً ، ووعدت المشرف أن أثبت التهمة عليه ، مقترحًا الخطة التالية : سأضع على كل قطعة أنهيها علامة صغيرة ، وفي حال وجدت قطعًا غير مطابقة للجودة ضمن القطع التي أنتجها، ووجدت عددها متطابقًأ مع عدد القطع التي تحمل العلامات التي وضعتها في انتاجه فتثبت إدانته ، لأنني أنهي انتاج الصباح ، وهو يبدأ بإنتاج المساء . وفي صباح اليوم التالي حصل المتوقع وكشفت حيلة الرجل ، الذي آتى ليتعرف أمام الرجل الذي كشف خدعته التي وقع بها الكثيرون قبلي، وطردوا من عملهم. من بعدها أصبحنا أصدقاء ، نعاون بعضنا البعض في العمل ، أنا أقوم بإنتاج زائد ليريح نفسه مساءً والعكس تمامًا ، بل أحيانًا يقوم بالإنتاج كله

أحداث 1978 ، أجبرتني على ترك المعمل ، وإنشاء معمل خاص مع صديقي الذي انفصل عني فيما بعد . وقد طلب مني احدهم صنع مكنة لـ ” جرار الخيمة ” عجز الكثيرون عن صنع واحدة ، نجحت بالأمر ، و صنعت خمسة الاف قطعة ، ليطلبوا مني كسر القالب الذي اصنع به القطعة أو بيعه لهم ، فقلت لهم ” كنت اسمع انكم مجاديب بس اليوم إتأكدت ”  فإذا أنا بعت القالب أو كسرته، ألا أستطيع صناعة قالب آخر، واستطاع هذا الإنجاز أن يسد ديوني و ينعم عليّ بحبوحة مالية  خاصة أنني ارتبطت بعهد مع السيد الذي طلب مني صنع المكنة أن لا اصنعها لأحد غيره، لكن الاجتياح الإسرائيلي أتى و أنهى كل شيء ، و المحل تفجّر  

عملت في قريتي تحت ألواح من الخشب لم تقيني من المطر و الهواء ، وصنعت تلك المكنة مجددًا ، ووزعتها ليأتي زبوني القديم معاتبًا إياي على مخالفة عهدي فأجبته ” إذا راح المحل ، راحوا صحابو ؟! ” جددنا عقد العمل ، لكن القدر عاد مجددًا ليقطع طريق ” بادح ” و طريق تبادلنا التجاري لأعمل بعدها  لدى الحاج رضا غدار في معمل لصناعة القازانات

مررت بفجائع عديدة ، ففي عام 1996 توفي ولدي حسان ، عن طريق خطأ طبي في إحدى المشفيات و كان شابًا في ربيع العمر ، وقبله زوجتي عائدة ، تاركة أطفالي الصغار أيتامًا . و آتاني في عام وفاتها عرض مغري للعمل في شركة للمعدات البحرية ” اسكوزا ” ، لكن ليلة إمضاء العقد ، تأملت أطفالي الأيتام ، إذا أنا سافرت و تركتهم ، سيحزنون مجددًا ، و من الممكن أن لا أراهم بعد عودتي  ، فاعتذرت ، فلا يمكنني أن أكسب شيئًا مقابل أن أخسر ما هو أعظم منه

وها أنا اليوم أعمل في مشغلي الخاص ، في مجال  ” الصب و الخراطة ” ( الصناعة ) ، في بلد المواطن ” مدعوس ” ، المواطن فيه فرد مستهلك ، لكن ماذا لو انتهى العشب في الحقل؟! لذلك يجب أن لا نستورد إلا ما نعجز عن تصنيعه، و أن نخلق ما نحتاج في الداخل ، ولو كلفنا أكثر مما يساهم في خلق إقتصاد ناجح . ذات يوم إلتقيت مع مندوب من وزراة التجارة الفرنسية ، الذي اقترح إلغاء الجمارك و فتح الحدود في التجارة بين البلدين ، حينها طرحت سؤالًا عن ما هي الأشياء الممكن أن نصدرها أليس ذلك أشبه بسباق بين فراري مع دراجة هوائية

 


  1. : قطعة فيها فراغ لتمرير شريط الكهرباء
  2. : شركة لتصنيع الأدوات المنزلية من طناجر ، سيف

بقلم مجتبى


كاتب وروائي لبناني
مواليد ميفدون -النبطية ١٩٩٦

حاصل على إجازة في الصحافة والإعلام من الجامعة اللبنانية الدولية
يتابع دراساته العليا في اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية

صدر له
رواية ” الليل الأخير ” عام ٢٠١٨
رواية ” الثانية الخامسة” عام ٢٠٢٠

مع باقة من كتابة الأفلام القصيرة


Leave a Reply