كعادة البلادة لدى العاطلين عن العمل، وكالعادة بعدم وجود أي أمل قريب بأي شيء، بعد ليلة طويلة من محاربة الأرق والفوز بقليل من النوم، يبدأ نهارٌ عادي، بشمس عادية، أنهيتُ علبة سجائري الأولى مع القهوة، أُفكر في كُل ما أفكر به كل يوم، لساعات أطرح على نفسي أسئلة اطرحها دائماً ولا أجد أجوبة لها، أرتب وأُهذب المنزل قليلاً: هل من الطبيعي حرق علبة سجائر دفعة واحدة في رئتي بعد توقف لمدة أسبوع عن التدخين؟ سؤال تافه يستحق الطرح. هل من الممكن، أن يتذكر الإنسان نكتة أو مواقف قديمة، ليُضحك نفسه، فقط بقصد تحريك عضلات الوجه، ومد عضلة القلب برعشة خفيفة؟ هل من الطبيعي فعل ذلك؟ سؤال تافه آخر

هل الوجودُ حتمي؟ أم تافه؟

أتذكر هنا، جملة ظهرت في فيلم ذروة للمخرج جاسبر نوي

Climax- Gaspar Noe

تقول: “الوجودُ وهمٌ آمن.”

هل كان كوب الشراب، الذي شربه محمود درويش، فعلاً مُرصعاً باللازورد؟ وهل انتظرها فعلاً طوال الوقت؟ هل فعلاً جرب الإنتظار؟ سؤالي هذا أسأله على نفسي بنوع من الحرقة المضحكة والمثيرة للشفقة

*

ارتديت ملابسي لأقوم بمخطط بسيط لليوم، بدايته زيارة قصيرة عادية لمنزل اصدقائي، الشارع عادي، ليسَ به أي شيء مختلف عن البارحة، بقي كما تركته، السماء لا تزال تقوم بعملها الأزلي، كل شيء بدا عادياً، أفكر بأنني لم أثمل منذ فترة طويلة وهو أمرٌ غيرُ عادي، لأشهر، حتى أنني لم أشرب قدحاً واحداً خلال هذه المدة، رغم وجود قنينة ويسكي جيدة في المنزل طوال هذه الأشهر، بالتالي ومع مرور الوقت أصبح الأمر عادياً أيضاً، أو على الأقل كنت أتوقع أنه سيصبح كذلك قريباً

إذن فمخططي لهذا اليوم: أن انتهي من زيارتي، وأمشي قليلاً، شراء الطعام، وعلب تبغ إضافية، وأعود لمنزلي الذي أعتبرهُ عرشُ ذاتي، وأقضي الليل كما كُل ليلة، وحدةٌ وموسيقى، وأشاهد المدينة من الأعلى، أو البحر من الجهة المقابلة للسطح

انتهيت من شراء أغراضي، وتذكرت أنه عليّ دفع فاتورة هاتفي، على الطرف المقابل من الشارع، واحد، اثنان، ثلاثة، وصلت إلى الرصيف المقابل، ثلاثٌ أُخرى وأصل، واحد اثنـ

*

يعمل الدماغ البشري بطريقةٍ مستقلة تماماً في بعض الأحيان لإنقاذ نفسه أولاً، وإنقاذك ثانياً، أي أنه يتحكم بأعضاء الجسم لإجبارها بطرق ملتوية غير مباشرة للإستجابة لأوامره والبقاء على وتيرة واحدة من العمل، إن أمكن، كمثال يحدث مع الجميع: عندما يشعر الدماغ أثناء نومك، أن حلمك المزعج، يبدأ بالتأثير سلباً على أداء القلب والأعصاب، بالتالي سيبدأ أداؤه هو (الدماغ) بالإنهيار بعد قليل من الوقت، يخترع لك حلماً بأنك تسقط من مكان شاهق، مثلاً، لتستيقظ، وتفتح عينيك، وتدرك، أنكَ لم تكن تسقط، أنك مازلتَ باق في مكانك، على السرير أو في أرضية الغرفة أو في أي مكان غفوت به، لتعود بعدها وظائفك الجسمانية بهدوء وبقليل من الوقت إلى وضعها الطبيعي، أو شبه الطبيعي، ليستريح ويكمل عمله السلطوي

**

نسيتُ كُل مخططي العادي، نسيت من أنا وأين أنا، ذاكرتي أُفرغت تماماً لثوانٍ وأصبح كُل ما يمدني به دماغي هو البقاء

رصيف، منتصف العدة الثانية .. صوتٌ عالٍ لدرجة أن أذناي أصابهما الصمم بعد الخربشة، ضغطٌ هائل كاد أن يقتلع صدري خارجاً، كل شيء يتطاير، واجهات المحلات الزجاجية تشرذمت في جميع الأنحاء والحديدية منها ضُرِبتْ وخُلِعت خارجاً بقوةٍ شنيعة، كل شيء يتكسر، أدواتٌ وأثاث وأشياء غريبة تسقط من كل مكان وفي كل مكان، لونٌ رماديّ غطى كُل شيء، أشخاصٌ يسقطونَ من الطوابق العليا، يتحولون لأجسادٍ كبلها الهواء لثوان، ثم لِتُطرح أرضاً، بلا حراك، آخرون تشبثوا بما التقطته أيديهم على الشرفات أو الشبابيك، لونٌ أحمر قاتم صبغَ العديد ممن كانوا في الشارع، بُقع من نفس الصبغة البشرية الحمراء متناثرة في الأرجاء، هناكَ من انقلب داخلهُ لينبسقَ خارجاً، السيارات أغلبها تكسر، أفواجّ هائلة من البشر تركض بعشوائية خائفة، مبتعدةً عن المكان المجهول للخطر، آخرونَ يبدأونَ بالتصوير والتوثيق أثناء الهرب، هناك أيضاً من سقط مغشياً عليهم أثناء الركض، أطفال رجال شيوخ نساء عجائز قطط كلاب طيور حشرات خفافيش جرذان …، الجميع كان خائفاً، كل شيء كانَ خوف

..

هل اختبئ في مدخل مبنى؟ –

لا! استمر بالركض! ألم تشاهد ذلك المبنى كيف اهتز حتى انهارت واجهته بأكملها؟ –

هل استتر خلف جدار؟ –

!لا لا! اركض! اسرع .. الجدران تقع واحداً تلو الآخر –

هل استقل سيارة أجرة؟ … هل أنت مجنون؟ –

..

أتوقف عن الركض، واتوقف عن الانصياع وتنفيذ ما يقوله دماغي عن النجاة والبقاء، أقف في منتصف الشارع أحاول استيعاب ما جرى، أمامي شارع مدمى ومحطم، خلفي أيضاً، علي يميني جثة فوق سقف سيارة، قد تكون حية أو ميتة، لا أعلم، على يساري متجر صغير محطم، في أرضيته امرأة ثلاثينية تحاول النهوض، لم تكن تستطع لوحدها أن تفعل ذلك بسبب قطع الزجاج في جسدها كله، أمامها وخلف طاولة المتجر على الكرسي صاحبه يحاول مذهولاً فهم ما حصل أثناء صراخه، في نفس الوقت يحاول اقتلاع قطعة ضخمة من الزجاج من كتفه، في الأعلى من يصرخ صراخاً بريّاً متمدن، الأبنية ما زالت واقفة، لكن أغلبها عاد بالزمن إلى لحظات إنشائها، ما زلت لا استطيع سماع شيء بوضوح، ما زال صدري يمنعني من التنفس بشكلٍ عادي، لا أدري إن كنتُ مصاباً أم لا، عينايَّ جافتين حدّ اللسع، اختفى الخوف، وحلَّ مكانه ذهول وعدم معرفة، وأسئلة سخيفة كثيرة

*

خلال سنوات، جربت كيف تكون رائحة الموت واستطعت أن اتحكم بها في الذاكرة، جربتُ مذاق الخوف والهرب، كيف يكون الشوق قارساً، الوحدة الصاخبة والمزدحمة دوماً، الغرق بالماء، الغرق بكأس الانتظار، كأس السعادة، وكأس الحزن، جربتُ أن أخسر وطناً، جربتُ الحرب وحيداً، جربتُ أن أكون بعيداً قدر المستطاع، أبعد من أن استطيع، كان ذلك قبل الرابع من آب

في الرابع من آب، الموت كانَ قريباً من جديد، ملتصقاً بي لدرجة أنني ما زلت لا استطع التخلص من رائحته، أشمُّها طوال الوقت، حتى اللحظة

هذه. هل من الممكن، اقتلاع الأنف، ووضع ساعة رملية مكانه

عن الكاتب: حسين الماغوط


كاتب، من سوريا، شغوف بالقراءة والكتابة الإبداعية، التاريخ والموسيقى

لدي تجربة جيدة بالنشر مع العديد من المنصات الأدبية والصحفية


لا أملك وسائل تواصل اجتماعي منذ ما يقرب الثلاث سنوات

Leave a Reply