.المارّة في عجل. اليوم حدث كبير؛ شعارات صاخبة، احتفال بالاستقلال، وتغنٍّ باسترداد البلد سيادته بعد زمن من الوصاية
وسط الزحام صبي يمسح الأحذية. لا يفهم شيئا من أحاديث المحتفلين في الطرقات. لم يهتم للمعرفة أبدًا، حتى عطفت عليه صدفةً إحدى مؤسسات الوطن السّيد المستقل، وأودعته إحدى المدارس حيث درس المصطلحات الطويلة والمعاني الكبيرة. انهمك ماسح الأحذية بالدراسة حتى نسي الرقع المتّسخة وحلّت مكانها في رأسه الكتب والقراطيس، وأشياء أخرى لا تلزم أبناء قارعة الطريق الذي سحب منه.
نظر رفاقه المتسولون إليه بعين الحسد إذ أنقذ من العوز.
وبعد أن قضى في الدراسة مثل الذي قضاه من وقت في مسح الأحذية، اعتاد تلك التعابير الثقيلة التي عبرت أذنيه دون أن يفهمها في ما مضى.
الحرية، “الإرادة” إلخ.. كلها كانت غريبة على سمعه، وصارت اليوم وقود أحاديثه اليومية. “سيادة النفس” و”الاستقلالية” كلمات أصبحت مألوفة اليوم كما كانت “البويا” و”الفراشي” بالأمس.
لما انطلق صاحبنا في رحلة تحقيق ذاته، كابد من الصعاب الكثير، لكن لم يهزّه منها كما هزّه تساؤل تملّكه ذات يوم متعب: أحقا أريد هذا؟
“أأجهد لأصير سيد نفسي؟ أم سيد ذات صنعها لي الآخرون؟”
أنا لم أسيّر نفسي في رحلة البحث عن الذات والتمكن منها. أتكون حريتي محض خيال ؟ ثم كيف لنا أن نكون أحرارا ونحن مبرمجون لنبحث عن
“الحرية؟”
يحضره قول طه حسين “لا يستقيم للعقل أن ننشد الحرية وأن نسير إليها سير العبيد” الذي بدا له عبثيا قبلًا. يصعق لهول اكتشافه، فيدفن رأسه في كومة ورق كتب على واحدة منها “إن الإنسان محكوم عليه بالحرية” . أهو حكم براءة أم إدانة؟
تنهّد وغاص في صمت رهيب، ثم لعن الحرية وكل ما زرعه فيه التعليم من أوهام.
ود لو يعود إلى فناء الشارع، فلا أضيق من زنزانة الحرية.
بقلم جهان
قد أكون في الراهن من الوقت على مشارف عناق طبيعة العالم الذي نعيش. فبعد سنين من تمرد أرعن أذكته شقاوة الطفولة، أركن اليوم إلى عزلة قد أخرج منها فرداً مملاً خاضعاً لأعراف البشر أو متمرداً على العيش نفسه