
قيلَ إن أفضل ما يمكن أن يفعله المرء لنفسه هو أن يجدها. أن يخلق مرسى لترسوا عليه أفكاره بين تخبط أمواجها و أن يحتفظ ببويضاته العذراء ليلدها
إن التجربة الإنسانية هي أعقد ما في الوجود، و على الفرد أن يفقه تاريخه الوجودي بجوانبه المتعددة، فيعود أدراجه لصرخته الإولى فرحاً بنجاح أول تذوق الوجود ، ثم ما يلبث أن يقلب صفحته نحو حاضره. مستشرفاً محطات صعوده وهبوطه، أوجه فعاليته و قصوره، عثراته و خيبات أمله، حاملاً إبتسامته نحو حافلات المستقبل، يستقل إحداها ليسرق النظر قليلاً من خيالٍ أو حقيقة تنتظره. و في لحظته الأخيرة يلقح بيوضته بحيوانٍ منوي جديد عثر عليه حديثاً، و ينتظر الحمل و الولادة
وفي رحلته الثانية، يبتلع الكتب والمقالات النفسية، تراه يمضغ ألغام لا وعيه ويبصقها نحو سطحه الواعي، محققاً بذلك تفريغاً لمعتقداتٍ خاطئة أو صدماتٍ طفولية لم يتعافى منها بعد. وأثناء جولته الثقافية، تقع عينيه على إحدى الكتب الفلسفية، مقدمة إبن خلدون، فيأخذه حلمه بعيداً من البداوة إلى الحضارة، لتوقظه لافتة عريضة تحمل ما يلي “إلتزم الصمت”، وكأن ضجيج أحلامه قطع سير الهدوء في المكان. فيكمل تلقيحه وآهات بويضته بالكاد تسمع
في رفٍ بيولوجيٍ عتيق، يكتشف أن المرء يتوارث. تتوارث أفكاره ومشاعره وتصرفاته، الشخصية الكلية نموذجاً عما سبقها، والجهاز العصبي ينقله الجد للأبناء ومن بعدهم ليصل أخيراً إلى أحفادٍ صغار، لا يقوى الواحد منهم على تنظيفه، فتأخذ الخلايا العصبية بصياغة الأحداث نفسها صانعةً المقولة الشهيرة “المرء إبن أبيه”. هل يزرع الآباء في أبنائهم أنماط ذكوريتهم؟، وهل تصنع الأمهات من بناتهن نموذجاً لذاتهن؟، هل تتزاوج الأحداث والصدمات وتلد أبنائها في أرجاء الحياة؟ هل يُوْرَثْ المرء أم يُكْتَسَبْ؟ هل يصنع ذاته أم تلقى عليه من لحية الأجداد والأعمام؟ أيرفع الفرد قبعته منتصراً لاقتلاع جذوره القديمة؟ أم فرحاً بامتدادها إلى ذوي الصلة؟
لطالما سعى الإنسان أن يفكك أحجيته لكنه كيف عساه أن يجد ذاته؟ وأين يجدها؟ وماذا يفعل إن وجدها؟

بقلم نادين عرندس
بدأت الكتابة منذ عمر ١١ سنة. تدرس علم النفس في الجامعة اللبنانية في صيدا